“هيباتيا”
لقد كنت رسّاماً أجيد فنّ الرّسم ،كنت أعشق لعبة الألوان و تماهيها مع الأشكال والأشياء…لا أذكر مذ بدأت الرّسم أنّي انقطعت عنه لمدّة طويلة…أن أرسم كان يعني لي و بكلّ بساطة أن أحيا، لكن منذ أن وقع ما وقع في البلاد وحدث ما تعرفون بدأت رسوماتي تقلّ…المسيرات في الشّوارع ،و النّقاشات في كلّ مكان، الأحلام التي ملأت مخيلتي صباحا مساء…البهجة الّتي رفعتني إلى أعالي السّماء، والمستقبل الّذي صرت ألامس أطرافه بأناملي…قلت لرفيقي ذاك الصباح وقدكان منتشياً مثلي :”إنّ أنوار باريس ستغدو مجرّد فوانيس باهتة أمام ما سنقدّمه نحن للعالم بعد سنوات قليلة..
انتابتني في البداية حيرة عميقة…ماذا أرسم و قد انفتح باب الحرّيّة على مصراعيه…لقد كان الغموض و دسّ الرّسائل و المواقف في الرّسم لعبة أتقنها، وكان رأسي يفيض لذّةً و أنا أخرق المحضور و الممنوع السّياسيّ أجرح بفرشاتي جسد الاستبداد ،و أطعن ما كنت أراه ثابتاً متصلّباً لا ينكسر…فيهتزّ العالم من حولي و تتراقص الألوان.
أغلقت بابي، خطوت تلك الخطوات الصّغيرة الّتي تفصل بين الممشى و الصالون…بابه كان مفتوحاً كعادته في مثل هذا الوقت من السّنة، فقبالته مباشرة باب آخر من البلّور والألمنيوم مفتوح كلّيّاً يتسلّل منه ضوء الشّمس في برد الشتاء .أمّا صيفاً فنسمات البحر ليلاً تصير وطناً للرّوح المنهكة من غبار المدينة…لم أكن بحاجة لإنارة المكان ،فالضّوء المتسلّل من العامودالكهربائي الموجود في الشّارع كان كافياً ليجعلني أميّز ما بداخل الغرفة من أثاث .و في الحقيقة لم يكن الأمر من أساسه محتاجاً لأيّ شعاع ضوء كي أفعل فتفاصيل المكان مرسومة منذ زمن في أعماقي و إنه و حتى في تلك الليالي التي أكون فيها ثملاً مفرطاً في الشّراب فإنّي لا أجد مطلقاً صعوبةً في التّنقّل و الحركة…
تحرّكنا منذ الصّباح…شربنا قهوتنا على عجل ،المقهى بالكاد بدأ يستقبل زبائنه…بعضهم في الحقيقة سبقنا خاصة هؤلاء الملتحون بملابسهم الأفغانية الغريبة و التي بدأت تظهر عند الكثيرين خاصة من الشباب الذي أصابته و بشكل مفاجئ موجة من التدين بعد أن حلّقت الحمامة الزرقاء عالياً لتحطّ وبشكل دراماتيكي أو ربّما كوميديّ فوق رؤوس الجميع متوعّدةً ببقائها في الحكم لثلاثين سنة أو أكثر و بشكل ديمقراطي ونزيه…من ركن غير بعيد تناهى إلى أسماعنا صوت أحدهم محتجّاً و موبّخاً نفس الوقت…لم يعجبه غناء فيروز الصّباحيّ المنبعث في أرجاء المقهى كصوت ملائكيّ قادم من أعالي جبال لبنان…تحوّل احتجاجه إلى ما يشبه الصياح”كفر…غناء عالصباح و بصوت هذه المسيحية الكافرة…نحبوقران…حللناقرآن…صوت الحق كلام ربي…القرآن في الصباح بركة”.و عبثاً حاول عبد الهادي أن يقنعه أنه قد فعل ذلك منذ الدقائق الأولى لفتح المقهى ،و أن تلك عادة دأب عليها الجميع هنا منذ أيام الحاج عبد السلام رحمه الله…و لتفادي مزيد من الفوضى الّتي أحدثها صاحبنا ،فقد أغلق النادل التلفزيون نهائيّاً صائحاً في غضب” ارتاحو الناس لكل”.
لم نجد للرّاحة سبيلاً. كان التوتر يهيمن على كل شيء و أجواء الجريمة و القتل صارت جاثمة في الأفق إنّهم يتحرّكون في الظلام يشحذون الخناجر في صمت و ينفذون جرائمهم و صباحاً يبتسمون في وجه الجميع ابتسامة صفراء مقيتة .لقد صار القتلة بيننا، يشربون ماءنا، يأكلون طعامنا، يجالسوننا في المقاهي و الحانات ثم يطلقون الرّصاص في أجسادنا في وضح النهار…
على الرّصيف المقابل للمقهى أوقف”قدور” سيارته السوداء ونزل أغلق بابها في عنف لا يتناسب و نحافة جسده و رقة يده ، سار باتّجاهنا ،كنت أرقب حركاته من خلف البلّور سلّم و جلس .بدا شارداً و قف “الهادي” أمامه لم يتفطّن لحضوره. رفع النادل كأساً فارغاً، حينها تمتم “قدور” “كلعادة هادي…”رفع عينيه إلى السّماء و بدا و كأنّه يحادث الأفق “سارة أنا ما أحببت غيرها وهي قد تزوّجت…”ثم صمت.جرحه الغائر في الأعماق كلما ذكره إلاّ و ردّد تلك الجملة الّتي كان يلقيها بيننا بحرارة الجمر، وكنا نعرف حينها أنّنا سننهي يومنا هناك في الحانة المتاخمة للبحر….
ألقيت بنفسي في تجاويف الأريكة القديمة المواجهة لجهاز التلفزيون المعلّق في الجدار ، غصت في أعماقها من الخارج تناهت إلى سمعي أصوات الموسيقى القادمة من كل مكان عبر مكبّرات الصّوت في احتفال شبه جماعيّ بالزواج تلك الحفلات التي تنبت في كل مكان في مثل هذا الموسم من السنة، زاد صخب بعض الأطفال الّذين يستمرّ لعبهم في الشّارع إلى وقت متأخر الأمر سوءا…هرباً من هذا
الخليط المؤذي من الأصوات المتداخلة شغلت التلفزيون…canal+ الفرنسية كانت تعرض فلم”Agora”…شاهدت الفلم أكثر من مرة الصراع الأبدي بين الدين و الفلسفة…الإنسان الباحث عن حريته و الآلهة التي تريد من أعالي السماء أن تخضع البشر لإرادتها…”هيباتيا”صوت الحرية المخنوق بيد عاشق أغوته الآلهة…
يرقص الراقص على القناة الوطنية رقصة “الهيلا هب” كان يرقص ببراعة و حرفيّة عالية، بثت القناة حفل افتتاح مهرجان قرطاج مباشرة…يرقص و يرقص و الإيقاع يعلو و يخفت يبتعد و يقترب…كان نصفه العلوي عارياً…خوفاً من الفتنة غضّ بعضهم وقد كانوا في الصفوف الأمامية البصر…يلفّ حول نفسه تتشابك يداه ثم تبتعدان تشكلان حركة جناحي طائر يرفرف في زهو و فرح …يعلو شيئاً فشيئاً يدور و يدور ويعلو كمريد صوفي يبحث في أعالي السماء عن وجه الله….يسكت الإيقاع فجأة، فيتداعى الجسد إلى الأرض من جديد…يعود الصّوت قويّاً و عنيفاً وفيم يشبه رقصة ” الهيلاهب” يلف من جديد حول نفسه و يلفّ و يلفّ دوران لا ينتهي….
ملفوفاً في سترتي البيضاء الملوّثة بالألوان وجدتني في ورشتي اللوحة البيضاء أمامي ،والفرشاة في يدي اليسرى ،ولوحة الألوان في يمناي ،تداخلت الأفكار في رأسي ،طليت الفرشاة بالأسود ،و في وسط اللوحة تماماً وضعت لطخة سوداء خمّنت أن تلك ستكون البداية، تراجعت خطوتين إلى الوراء ،دارت يدي فوق لوحة الألوان طويلاً …تراجعت مرّةً أخرى ،مددت يدي باتّجاه اللّوحة لكنّي سرعانما رددتها …ألقيت بالفرشاة و لوحة الأ لوان على الأرض ونزعت سترتي…
في الصباح و حين عدت إلى ورشتي لألملمني رفعت عينيّ إلى اللّوحة …لقد تمدّد السّواد إلى كل أرجائها.
التقييم (سيتم التقييم لاحقا)
قام بالتقييم القاص ……..
1-نقاط جدية الفكرة و ابتكارها
2- قدرة الكاتب على تقديم رؤية شخصية ومبتكرة للموضوع
3- استخدام لغة أدبية وعبارات مبتكرة
4- ؤجود بداية ووسط ونهاية واضحة للقصة
5-تسلسل الأحداث بشكل منطقي ضمن عالم الخيال
6-استخدام أدوات السرد مثل الحوار و الوصف
7-مدى واقعية الشخصيات وتطورها
8-قدرة الكاتب على خلق شخصيات معقدة ومؤثرة
9- تعكس الشخصيات تحديات وقضايا الشباب المعاصر
10- وضوح اللغة وسهولة الفهم
11- استخدام لغة أدبية وعبارات مؤثرة
12- تنوع المفردات و الأسلوب
13- انسجام الأسلوب مع الموضوع
14-مدى عمق طرح الفكرة
15- أهمية الرسالة التي يحملها النص
16-مدى ارتباط النص بقضايا الشباب المعاصر
17- قدرة النص على إثارة المشاعر و الأفكار
18- مدى بقاء النص في ذهن القارئ
19-أهمية الرسالة التي يحملها النص
20- قدرة النص على إحداث تغيير إيجابي
مجموع النقاط : 100/…….